تعريف البدعة عند الحافظ هبن رجب

Posted in Senin, 04 April 2011
by Unknown

جامع العلوم و الحكم في شرح 50 حديثا من جوامع الكلم

28-/ 25-30

فقوله - صلى الله عليه وسلم - : (( كل بدعة ضلالة )) من جوامع الكلم لا يخرج عنه شيء ، وهو أصل عظيم من أصول الدين ، وهو شبيه بقوله : (( من أحدث في أمرنا ما ليس منه فهو رد )) ، فكل من أحدث شيئا ، ونسبه إلى الدين ، ولم يكن له أصل من الدين يرجع إليه ، فهو ضلالة ، والدين بريء منه ، وسواء في ذلك مسائل الاعتقادات ، أو الأعمال ، أو الأقوال الظاهرة والباطنة .

وأما ما وقع في كلام السلف من استحسان بعض البدع ، فإنما ذلك في البدع اللغوية ، لا الشرعية ، فمن ذلك قول عمر - رضي الله عنه - لما جمع الناس في قيام رمضان على إمام واحد في المسجد ، وخرج ورآهم يصلون كذلك فقال : نعمت البدعة هذه . وروي عنه أنه قال : إن كانت هذه بدعة ، فنعمت البدعة . وروي أن أبي بن كعب ، قال له : إن هذا لم يكن ، فقال عمر : قد علمت ، ولكنه حسن . ومراده أن هذا الفعل لم يكن على هذا الوجه قبل هذا الوقت ، ولكن له أصول من الشريعة يرجع إليها، فمنها : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يحث على قيام رمضان ، ويرغب فيه، وكان الناس في زمنه يقومون في المسجد جماعات متفرقة ووحدانا ، وهو - صلى الله عليه وسلم - صلى بأصحابه في رمضان غير ليلة ، ثم امتنع من ذلك معللا بأنه خشي أن يكتب عليهم ، فيعجزوا عن القيام به ، وهذا قد أمن بعده - صلى الله عليه وسلم - . وروي عنه أنه كان يقوم بأصحابه ليالي الأفراد في العشر الأواخر .
ومنها : أنه - صلى الله عليه وسلم - أمر باتباع سنة خلفائه الراشدين ، وهذا قد صار من سنة خلفائه الراشدين ، فإن الناس اجتمعوا عليه في زمن عمر وعثمان وعلي .

ومن ذلك : أذان الجمعة الأول ، زاده عثمان لحاجة الناس إليه ، وأقره علي ، واستمر عمل المسلمين عليه ، وروي عن ابن عمر أنه قال : هو بدعة، ولعله أراد ما أراد أبوه في قيام رمضان .

ومن ذلك جمع المصحف في كتاب واحد ، توقف فيه زيد بن ثابت ، وقال لأبي بكر وعمر : كيف تفعلان ما لم يفعله النبي - صلى الله عليه وسلم - ؟ ثم علم أنه مصلحة ، فوافق على جمعه ، وقد كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يأمر بكتابة الوحي ، ولا فرق بين أن يكتب مفرقا أو مجموعا ، بل جمعه صار أصلح .
وكذلك جمع عثمان الأمة على مصحف واحد وإعدامه لما خالفه خشية تفرق الأمة ، وقد استحسنه علي وأكثر الصحابة ، وكان ذلك عين المصلحة .
وكذلك قتال من منع الزكاة : توقف فيه عمر وغيره حتى بين له أبو بكر أصله الذي يرجع إليه من الشريعة ، فوافقه الناس على ذلك .

ومن ذلك القصص ، وقد سبق قول غضيف بن الحارث : إنه بدعة ، وقال الحسن : القصص بدعة ، ونعمت البدعة ، كم من دعوة مستجابة ، وحاجة مقضية ، وأخ مستفاد . وإنما عني هؤلاء بأنه بدعة الهيئة الاجتماعية عليه في وقت معين ، فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يكن له وقت معين يقص على أصحابه فيه غير خطبه الراتبة في الجمع والأعياد ، وإنما كان يذكرهم أحيانا ، أو عند حدوث أمر يحتاج إلى التذكير عنده ، ثم إن الصحابة اجتمعوا على تعيين وقت له كما سبق عن ابن مسعود : أنه كان يذكر أصحابه كل يوم خميس .
وفي " صحيح البخاري " عن ابن عباس قال : حدث الناس كل جمعة مرة ، فإن أبيت فمرتين ، فإن أكثرت ، فثلاثا ، ولا تمل الناس .
وفي " المسند " عن عائشة أنها وصت قاص أهل المدينة بمثل ذلك . وروي عنها أنها قالت لعبيد بن عمير : حدث الناس يوما ، ودع الناس يوما ، لا تملهم . وروي عن عمر بن عبد العزيز أنه أمر القاص أن يقص كل ثلاثة أيام مرة . وروي عنه أنه قال له : روح الناس ولا تثقل عليهم ، ودع القصص يوم السبت ويوم الثلاثاء .
وقد روى الحافظ أبو نعيم بإسناده عن إبراهيم بن الجنيد ، حدثنا حرملة ابن يحيى قال : سمعت الشافعي - رحمة الله عليه - يقول : البدعة بدعتان : بدعة محمودة ، وبدعة مذمومة ، فما وافق السنة فهو محمود ، وما خالف السنة فهو مذموم . واحتج بقول عمر : نعمت البدعة هي .

ومراد الشافعي - رحمه الله - ما ذكرناه من قبل : أن البدعة المذمومة ما ليس لها أصل من الشريعة يرجع إليه ، وهي البدعة في إطلاق الشرع ، وأما البدعة المحمودة فما وافق السنة ، يعني : ما كان لها أصل من السنة يرجع إليه ، وإنما هي بدعة لغة لا شرعا ؛ لموافقتها السنة .
وقد روي عن الشافعي كلام آخر يفسر هذا ، وأنه قال : والمحدثات ضربان : ما أحدث مما يخالف كتابا ، أو سنة ، أو أثرا ، أو إجماعا ، فهذه البدعة الضلال ، وما أحدث من الخير ، لا خلاف فيه لواحد من هذا ، وهذه محدثة غير مذمومة
وكثير من الأمور التي حدثت ، ولم يكن قد اختلف العلماء في أنها هل هي بدعة حسنة حتى ترجع إلى السنة أم لا ؟ فمنها : كتابة الحديث ، نهى عنه عمر وطائفة من الصحابة ، ورخص فيها الأكثرون ، واستدلوا له بأحاديث من السنة .
ومنها : كتابة تفسير الحديث والقرآن ، كرهه قوم من العلماء ، ورخص فيه كثير منهم .
وكذلك اختلافهم في كتابة الرأي في الحلال والحرام ونحوه ، وفي توسعة الكلام في المعاملات وأعمال القلوب التي لم تنقل عن الصحابة والتابعين . وكان الإمام أحمد يكره أكثر ذلك
وفي هذه الأزمان التي بعد العهد فيها بعلوم السلف يتعين ضبط ما نقل عنهم من ذلك كله ، ليتميز به ما كان من العلم موجودا في زمانهم ، وما حدث من ذلك بعدهم ، فيعلم بذلك السنة من البدعة .
وقد صح عن ابن مسعود أنه قال : إنكم قد أصبحتم اليوم على الفطرة ، وإنكم ستحدثون ويحدث لكم ، فإذا رأيتم محدثة ، فعليكم بالهدي الأول . وابن مسعود قال هذا في زمن الخلفاء الراشدين .

وروى ابن مهدي ، عن مالك قال : لم يكن شيء من هذه الأهواء في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - وأبي بكر وعمر وعثمان . وكأن مالكا يشير بالأهواء إلى ما حدث من التفرق في أصول الديانات من أمر الخوارج والروافض والمرجئة ونحوهم ممن تكلم في تكفير المسلمين ، واستباحة دمائهم وأموالهم ، أو في تخليدهم في النار ، أو في تفسيق خواص هذه الأمة ، أو عكس ذلك ، فزعم أن المعاصي لا تضر أهلها ، أو أنه لا يدخل النار من أهل التوحيد أحد .
وأصعب من ذلك ما أحدث من الكلام في أفعال الله تعالى من قضائه وقدره ، فكذب بذلك من كذب ، وزعم أنه نزه الله بذلك عن الظلم .
وأصعب من ذلك ما أحدث من الكلام في ذات الله وصفاته ، مما سكت عنه النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه والتابعون لهم بإحسان ، فقوم نفوا كثيرا مما ورد في الكتاب والسنة من ذلك ، وزعموا أنهم فعلوه تنزيها لله عما تقتضي العقول تنزيهه عنه ، وزعموا أن لازم ذلك مستحيل على الله - عز وجل - ، وقوم لم يكتفوا بإثباته ، حتى أثبتوا بإثباته ما يظن أنه لازم له بالنسبة إلى المخلوقين ، وهذه اللوازم نفيا وإثباتا درج صدر الأمة على السكوت عنها .
ومما أحدث في الأمة بعد عصر الصحابة والتابعين الكلام في الحلال والحرام بمجرد الرأي ، ورد كثير مما وردت به السنة في ذلك لمخالفته للرأي والأقيسة
العقلية .
__

جامع العلوم و الحكم في شرح 50 حديثا من جوامع الكلم لابن رجب ..

الكتاب المحقق : ماهر ياسين فحل ، وقد جعل تحقيقه للكتاب مجانا فجزاه الله خيرا
مصدر الكتاب : موقع صيد الفوائد